تعلمت الصبر من زوجها الذي تعلم فضائل الصبر خلال سنوات عمله الذي يقتضي أن يظل في البحر لأيام حيث كان يعمل بصيد الأسماك ، نقل خبرته لزوجته ولم يتذمر أحدهما علي ضيق المعيشة بل كانوا شاكرين الله عز وجل علي ما أنعم به عليهم من نعم ، وعاشوا يهتمون بتربية ولديهما في رضا تام ، ولم يأمل أحدهما في تغيير ما كتبه الله لهم ، إلي أن جاء ذاك اليوم الذي ذهب فيه زوجها ليمارس عمله في عرض البحر كعادته في أول كل أسبوع ،
ظلت تراقب ابتعاد قاربه عن الشاطئ وهي تلوح له بيدهاو تتمتم ببعض الأدعية ليعود سالماً إلي أن غاب عن مدى بصرها ، وكان هذا لقائهما الأخير حيث عادت كل قوارب الصيد ولم يعود قاربه ولم يقذف بجسده الموج ،ظلت لأيام علي أمل عودته إلي أن تلاشى أملها بمرور الوقت ،
كانت كل ليلة تحتضن صغارها وتبكي في صمت ، فلم يعد وجود لمن كان ينصت لبُكاءها ومن كانت تبوح له بأوجاعها ، فلم يكن في صمتها راحة ولا حتي في البوح بما يؤلمها ، حينها كانت شابة في أوائل العقد الثالث من عمرها وتحمل من الجمال ما يُميزها عن النساء الأخريات ، ولكنها رفضت كل عروض الزواج التي قُدمت لها لكي لا تُدخل علي ابنائها رجل قد يُسئ معاملتهم ، ضحت بكل غالي ونفيس من أجلهم، ولم تدخر أي جهد لكي تُحسن تربيتهم وتعليمهم ،
فكانت في كل صباح تخرج لبيع الورود ، وبعد الظهر تجوب الشواطئ إلي الصيادين اصدقاء زوجها تجمع بعض الأسماك لتُرزق من وراءهم ببعض النقود لتُغطى مصاريف تعليم صغارها و تسد جوعهم وتمنعهم من السؤال ، ظل هذا الحال لسنوات كان يجتهد فيها ابنها الأكبر ليثبت تفوقه في التحصيل الدراسي مثلما كان شقيقه الصغير الذي أشاد به معلمه ووصفه بصفة النبوغ ،
أما عن الأبن الاصغر فقد قررت التخلي عن كل احلامه علي الرغم من تفوقه والإنسحاب من الصفوف الدراسية التي كان في طليعتها ، ليُخفف الحمل الثقيل عن كاهل والدته التي اضعفته صراعاتها مع الحياة ، فأخذ يعمل ويضع بين يديها كل ما يجني من مال ، لتوفر به احتياجات شقيقه الذي التحق حديثاً بإحدى كليات القمة ،
ظل يعمل ليُوفر كل ما يمكن توفيره لكي يصل شقيقه لمُبتغاه ، وحينما تخرج شقيقه والتحق بإحدى المؤسسات المرموقة قرر هو السفر ليصنع مستقبله وعالمه الخاص ، بعد أن وعده شقيقه برعايته لأمه وأنه سيتكفل بكل إحتياجاتها ، فما كان من الأبن الأكبر الذي كافحت أمه لتُسلحه بسلاح العلم إلا أن نسى فضلها عليه و كم كانت تُعاني لكي يصل إلي ما هو عليه الأن ، ورد الجميل لها بغيابه عنها وذهب إلي المدينة ،ولم يتبقي لديها ما تتكأ عليه إلا جدران غرفتها ، أما عن الأبن الأصغر فكان يواظب علي مراسلة أمه من الخارج ،
كانت أمية ولم تتمكن من قراءة ما يكتبه لها ولكنها كانت تشم رائحته في تلك الأوراق الملونة التي كانت تُرافق كل رسائله ، دارت سواقي الزمن وأتخذ كلاً من ابناءها سبيله في الداخل والخارج ، إلي أن عاد الأبن الأكبر وقد ظهرت علي ملامحه الهيبة ، وعلي ثيابه الزهو والرقي ليُخبرها بزواجه بعد أن مضى علي زفافه ستة اشهر ،
كان يخجل أن تحضر أمه زفافه لكي لا يُعايره الآخرين بها ، تلك السيدة التي نخر البرد عظامها لكي تُدفئه يخجل هذا الأحمق من ظهورها في زفافه ، نسى أن تجاعيد وجهها تحكى عن قصص كفاح وألم وأن تلك الجروح المتناثرة في كفيها تتحدث عن مُعاناتها طوال سنوات ، ذهب بأمه ليُعرفها علي زوجته التي قابلتها بغرور وتكبر ، وأخذت تبتسم لها في خبث وهي تداعب هرة صغيرة تمسحت بساقها وهي تموء بصوت خافت ،
كانت أمه سيدة حكيمة ذات نظرة ثاقبة فعلمت أن زوجة ابنها أنثى لعوب ، وما أن وجهت إليها بعض الأسئلة حتي غضبت ثم ذهبت دونما ان تستأذن أو أن تُلقي عليها التحية لتُعلمها أنها ضيفة ثقيلة وغير مرغوب في وجودها ،هرع زوجها خلفها وترك أمه ، أغرورقت عينا الأم بالدموع وعلمت أنها أنفقت مشاعرها الثمينة علي أبن سئ ردئ الأخلاق معدوم النخوة ،
فهي لا تستحق منه ما فعله بها بتدبير من الحمقاء زوجته ، خرجت من منزل ابنها الذي يعيش في رغد وذهبت قاصدة غرفتها التي تُغرق مياه الأمطار أرضيتها كلما قررت السماء البكاء علي حالها ، تعجبت حينما لمحت من بعيد الأنوار المُضاءة في غرفتها وانهمرت الدموع من عينيها عندما تذكرت أن فرحتها بوجوده جعلتها تترك الانوار مضاءة وتذهب معه ، وما أن اقتربت من باب غرفتها حتي وجدت رجل يقف بالداخل مواجه للجدار ينظر إلي الأوراق المُلونة التي كان يُرسلها إليها ابنها الأصغر والتي كانت تعلقها علي الجدران لتُزين بها الغرفة ،
وحينما شعر بوجودها استدار إليها وهو ينظر لها بعيون غارقة في الدموع ، فأحتضنته في لهفة ودارت الأرض من تحتها وسقطت فاقدة الوعي ، فما كان هذا الرجل إلا ابنها العائد من الخارج وما كانت تلك الأوراق الملونة إلا شيكات مصرفية كان يرسلها إليها شهرياً لتعيش بها حياة كريمة ، لم يتزوج ولكنه من اجل امه أحترم كل النساء لكي يُبادلونها الأخرين الأحترام نفسه ، كانت رائحة الورد التي تبيعها تُسعد الجميع ، أما عن ابنها الأكبر فقد حاسة الشم وكانت رائحة الجنة تحت قدميها ولم يميزها...
#نصيحتي إلي الذين تضحك عيونهم رغم أقدارهم العصيبة،عليكم بإرضاء أمهاتكم وأبائكم ، ولا تنسوا فضل من انطفئوا لكي يُضيئوا طريقكم ، من قدموا التضحيات بطيب خاطر لكي تبتهجوا ، #تحية_عظيمة لكل أم كانت أقوي من مائة رجل وتحملت مسؤولية يعجز اصلب الرجال عن حملها،وفي يوم عيد الأم ... اللهم أرزق كل أم فوق عمرها عمراً وفوق صحتها عافية ، وأرحم وأغفر لكل أم رحلت وسبقت ابنائها إلي دار الحق، نصيحتي لكل رجل رشيد لا تُهمل أمك ولا تُرهقها وإلا فلن تنجو وستظل...
ملعوناً بغضبها مهما حييت
بقلم الكاتب: محمد داوود
تعليقات
إرسال تعليق